الدكتور نور الدين لشكر يكتب: د الباديدي من خلال كتابه “الذاكرة من منظور العلوم المعرفية”، الذي لاأخفي أنني قرأته مرات ومرات وجدته باحثا بعيدا كل البعد عن الحس المشترك الذي كنت أتمثله حوله، فقد رفع السقف عاليا مغربيا وعربيا…

 

وتأكدت فعلا من مقولة أن الشخص إذا أردت ان تجالسه فاقرأ كتابا له، وغير ذلك كلام في كلام…

الاحتفاء بالإنتاجات المعرفية (كتاب، مقال، ..) وتحديدا تلك التي تدخل في إطار التخصص هو تقليد الجامعات العريقة، فالمنتج المعرفي لابد أن يخضع للنقد والمقارعة والمناظرة، وهو ما يساهم في نقد وتطوير وإغناء البحث العلمي بشكل عام، فالمعرفة العلمية تتطور بحوار جدلي دائم ومستمر، بدل الإحتفالات الكرنفالية التي تأخذ صورة الصيحة من صيحات الشبكات الاجتماعية والثقافية الرقمية منها والواقعية. والإحتفاء العلمي تكريس لثقافة الإعتراف، فقتل كتاب كقتل إنسان، وحياة الإنسان بكتبه، فالبقاء للأثر.  ولايسعني الا أن اتقدم بالشكر الخالص للاستاذ الباديدي على دعوته وحسن كرمه وضيافته وسعة صدره لنقنا المتواضع معرفيا.. إلى جانب ثلة من السادة الأساتذة الأجلاء.. والشكر الخالص للسيد عميد كلية العلوم الانسانية والاجتماعية السيد جمال الدين الكركوري ونائبه السيد احمد الفرحان وطلبة الماستر على رعايتهم لهذا العرس المعرفي ..
وبعيدا ع كل لغة تحتمل المجاملة.. أقول بلغة المعرفة إن د الباديدي من خلال كتابه “الذاكرة من منظور العلوم المعرفية”، الذي لاأخفي أنني قرأته مرات ومرات وجدته باحثا بعيدا كل البعد عن الحس المشترك الذي كنت أتمثله حوله، فقد رفع السقف عاليا مغربيا وعربيا… وتأكدت فعلا من مقولة أن الشخص إذا أردت ان تجالسه فاقرأ كتابا له، وغير ذلك كلام في كلام…
فمن أول إطلالة على الكتاب، وجدت أن هناك مسؤولية أعلن عنها الباحث من خلال عنوانه، فلم يكن العنوان فرقعة معرفية بدون مضامين، بل إعلانا واضحا يروم بسط موضوع الذاكرة من منظور العلوم المعرفية وفق مسار كرونولوجي وتركيبي للدراسات التي تناولت الموضوع. كما قام بعرض أهم رواد هذا الحقل المعرفي، وأهم المناهج والتقنيات المستخدمة في دراسة بنية الذاكرة ونموها وكذا علاقتها بالوعي، ثم التحديات التي باتت تواجه الدراسات السيكولوجية لهاته الخاصية الإنسانية. وقد تبين أن د الباديدي قدم مبررات اختياراته لكل خطوة من خطوات الكتاب، فمنذ اللحظة الأولى كان مبرر اختيار “مشروع إبينكهاوس”  كنقطة بداية لعرضه، على اعتبار أن كتاب هذا الأخير “حول الذاكرة” كان المنطلق بالنسبة للدراسات العلمية أو ما سمي بالسيكولوجية التجريبية سنة 1885. رغم ما عرفته من نقد من الاتجاه السلوكي وبالضبط حول منهج الاستبطان. كما تعتبر منهجية الكتاب إحدى نقط قوته المعتمدة، حيث تم الالتزام بمبدأ التدرج في عرض الدراسات حول موضوع الذاكرة، لقد انتقل صاحب الكتاب من البسيط إلى المركب عبر سبعة فصول، انتقلت من العرض التاريخي للدراسات إلى قراءات وصفية ثم تركيبية، من خلال نماذج استعارت مفاهيم صيغت في علم بالحوسبة. مثل “القوالب (فودور/ وتيار القالبي التمثلي) والشبكات (ماكيلوش وبيتس وروزومبلات/ التيار الاقتراني المهيمن في مجال الذكاء الاصطناعي)” ثم دراسة الذاكرة من حيث زمن وبنية اشتغالها في الفصلين الثالث والرابع، فالفصول الثلاثة الأخيرة التي قدمت عرضا تحليليا للدراسات الأخيرة حول تنظيم المعارف بالذاكرة وعلاقتها بالوعي. ويمكن اعتبار الفصل السادس هو التحدي الذي خاضه صاحب المنجز، ذلك أن الحديث عن الذاكرة بنيويا أو وظيفيا، سيزداد تعقيدا حين تم ربطه بأهم خاصية تميز الانسان عن باقي الكائنات الطبيعية، والتي بدورها تمتلك ذاكرة لكنها لا تمتلك وعيا قصديا. 
ولا يمكن إغفال الجانب البيبليوغرافي في الكتاب الذي كان غنيا، ونعتقد أن الكتاب لو لم يكن فيه إلا هذا الجانب لاستحق التقدير والإعتبار، لأنه قدم مراجع مهمة وعالمية لرواد الدراسات المعرفية حول موضوع الذاكرة. فهناك أزيد من 220 مرجعا في الموضوع وباللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية، وهي نقطة أخرى تحتسب لصاحب الكتاب. فالكاتب عاد لفودور وبياجي وواطسن وروش وتولفين، وغيرهم كثير، بشكل مباشر ودون وسائط معرفية، أو ترجمات قد تضرب في أصالة هذا المنجز. 

   كما أن جانب التهميش في الكتاب، مثل بدوره إضافة معرفية وانفتاح أساسي ومهم للباحث، على غير عادة هوامش بعض الإصدارات، التي تقتصر على إحالات بالمصادر. والصفحات التي تبرز ذلك كثيرة، ك الصفحات 41 و48 و49 مثلا، التي قدمت تعريفات وتحديدات أو تعقيبات وتنبيهات غاية في الأهمية للباحث المختص. وكمثال على ذلك، فقد نبه إلى الدور الذي قام به “ماكيلوش” في تأسيس السيبرنتيكا من خلال تقديمه لنموذج شبكات النورونات رغم أن إسمه بقي مجهولا… 

شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...